|
|
|
|
|
في الكتابة والحرية والحوار
بقلم/ فداء محمد ناصيف
نشر منذ: 11 سنة و 10 أشهر و 3 أيام الخميس 28 يوليو-تموز 2011 05:56 م
تبدو الكتابة وكأنها تمحو المكان والأشياء لتعيد تصويرها، فتبقى الصورة ويذهب الأصل، فهو صائر إلى زوال بحكم الزمن وتقادم الأحداث، وهنا يكمن معنى الكتابة وأهميتها وفحوى التفاوت النوعي بين كتابة وأخرى، إذ لاشك بأن ثمة فارقاً بين نص يستطيع امتلاك حركة المكان في لحظة أو تجربة معينة، فيخلد النص بصفته عالماً قائماً بذاته، كما يخلد المكان في لحظته تلك داخل النص، وبين نص لم يقو على امتلاك المكان فيفقد هويته وأهميته، بغض النظر عما إذا كان المكان واقعياً أو متخيلاً ليوازي أو يعادل مكاناً معيناً في لحظة معينة، لأن النص يريد تبرير وجوده، من خلال محاولة ملء ما قد يبدو فراغاً أو نقصاً في تصوّر القارئ أو وعيه عن أمر ما، وهنا يكمن سحر النص وجاذبيته، فهو يضع القارئ أمام صورة تحاول الاكتمال من خلال إرهاصات السؤال عن طبيعة تلك الأشياء أو الظواهر ومعانيها، عن خللها أو جمالها أو ارتباكها، وعن أفكار الكاتب ذاته عنها أو شدّة تأثيرها على كاتبها
والكاتب هنا ليس حراً، فعلى الرغم من تعدّد القراءات وتنوعها، فإنها تبقى محكومة بقاسم مشترك هو اقتراب النص أو ابتعاده عن منطق الأشياء، ولاسيما بعدما غدا من المسلّمات الآن في مفهوم (القراءة)، بأن كل نص يتعرض لعدد غير محدود من التأويلات تبعاً لتعدد قرائه، فثمة قراءة تخضع لمستوى وعي القارئ، وأخرى لأغراضه المسبقة التي ربما كانت ذات طابع تعسفي، وقلما، عندنا تحديداً، يُـقرأ النص موضوعياً، أي بمقارنة محايدة بين الأفكار والصور الواردة في النص، وبين الظاهرة كما هي في الواقع، أو المقارنة المحايدة بين نص محلي معين، وبين نصوص أخرى محلية أو أجنبية على صعيد "أدبية" النص الأدبي، فالاختلاف في نوعية نتائج القراءة لا علاقة له بمستوى الكتابة أو نوعيتها، لأن مستوى القارئ وظروف القراءة هما اللذان يلعبان دوراً رئيسياً في تحديد قيمة النص لدى قارئ معين، فلو أعطيت نصاً شكسبيرياً لقارئ ضحل الثقافة، فإن النص ذاته سيبدو ضحلاً في تصوّره
وقراءة كتاب معين بالنسبة لسجين غيرها بالنسبة لإنسان جالس في حديقة بيته، أو مستلقٍ على كرسي هزّاز على شاطئ، أو تحت شجرة دلب تطاول السماء مزهوةً برذاذ هارب من شلال يراقص أغصانها، التي تظلل المكان بسحر مقشود من طبيعة خرافية
والكتابة مثل الأخلاق أو التقاليد، تخضع لطبيعة النسق الحضاري في كل مجتمع، من حيث المفردات والمفاهيم، أي لمستوى ونوع الحرية المتاحة، فالكتابة عن الجنس أو الحكومة في بلد نام تختلف عنها في بلد غربي عموماً، أو اسكندنافي خصوصاً، غير أن مستوى الحرية لا يحدد بذاته أهمية الكاتب والكتابة، فليس أي كاتب في فرنسا أكثر أهمية من أي كاتب في بلد عربي مثلاً، لمجرد كون الحرية في حالة أفضل في البلدان الأوروبية. إن تقدم الرواية، على سبيل المثال، في أمريكا اللاتينية واليابان وبعض البلدان العربية، هو ظاهرة واقعية تدعم هذا الرأي، لكن هناك فرقاً بين ما يتم إنتاجه من معرفة وإبداع حقيقي في الثقافة العربية، وبين ادعاءات وأوهام شائعة عندنا، وسيكون من العسف نقض هذا الرأي عبر مقارنة النظم المعرفية والفلسفية التي تنتجها الثقافة الغربية المعاصرة بعد تراكم قرون عديدة
بواقع الحال في بلدان العالم الثالث التي ما لبثت تنفض غبار الاستعمار الغربي عن أجسادها وعن ذاكرتها، وتتلمس بكثير من التؤدة والحذر طريق الألف ميل، لأن النسق الحضاري والثقافي في الغرب لا يمكن مقارنته بسواه بحكم السياق التاريخي والتطور الموضوعي للظواهر المعرفية. والكتابة أحياناً تأخذ أهميتها من جرأة أو إمكانية الكاتب في التأسيس لمناخ الحرية في ظروف غياب الحرية، حرية الوعي والعيش بـما تقتضيه الضرورة الاجتماعية، وبالنسبة إلينا، حتى لو توافرت حرية التعبير رسمياً في بلد عربي ما، فإن طبيعة التقاليد الاجتماعية المتزمتة، أو المحافظة أضعف الإيمان، بما هي خليط من ريفية وبداوة كامنة حتى داخل مشاعر وعادات سكان المدن، تظل تشكل عائقاً أمام إمكانية التعبير عن الحقيقة، حقيقة الإنسان وحقيقة المجتمع ونسقه الثقافي والحقوقي
لكل ذلك ليس من المنطقي أن نتوقع ظهور شخصيات مثل هيغل أو سارتر في فيافينا، ليس لاختلاف طبيعة البشر هنا أو هنالك، بل لاختلاف طبيعة الشروط والظروف الثقافية الموضوعية، لا الذاتية التي يجد هؤلاء البشر أنفسهم فيها، وهو أمر خارج عن إرادتهم، دون أن يلغي أهمية مساهماتهم وحضورهم الثقافي بقدر تعلقهم هم بذلك الحضور وتلك المساهمات. وضمن هذا السياق يصبح الكاتب مهماً عندما تكون كتابته منسجمة مع طبيعة الواقعة التي يتناولها، عبر علاقته بموروثه التاريخي والنسق السيكولوجي والحضاري الذي يحدد له طبيعة دفاعه عن معنى الجمال، لأن الجمال يكمن في الحرية، وفي المستوى الحقوقي للغة القادر على تحقيقه، لأن المستوى الحقوقي للغة يحدد أو يشير إلى المستوى الحضاري في هذه الثقافة أو تلك، الأمر الذي ينطبق على النص الفكري وما يوازيه جمالياً في المادة المتخيلة، أي النص الأدبي
إن علاقة المجتمع بزعيم سياسي في سويسرا أو النمسا هي غيرها في بلاد المشرق أو المغرب العربيين، بل إن نظرة المجتمع إلى الجسد الإنساني تختلف من بلد إلى آخر، وكل هذا يتعلق بالكتابة وإشكالاتها، بالكتابة الأدبية والفكرية والحقوقية، باعتبارها انعكاساً لما يجري في الواقع ببعديه الواقعي والمتخيل، المتخيل الذي يحدد طبيعته ظرف ثقافي معين، باستعاراته وإيقاعه وحيثياته الأخرى التي تختلف من نسق إلى آخر، لذلك فإن الشعر العربي الذي يُقلّد ترجمات غربية، يفشل في الوصول إلى القارىء والتواصل معه، لأن مادته المتخيلة تعتمد على استعارات نسق مختلف، لا علاقة لها بهواجس الشاعر أو قارئه وحقيقته الروحية، فهو شعر يبدو جميلاً لناحية لغته وأسلوبه، لكنه يفتقر للشحنة الشعورية الخفية التي تميز تجربة إنسانية عن أخرى، وهذا ينطبق على اللوحة التشكيلية وسواها من الفنون، ووجد أن طبيعة علاقة الإنسان بجسده، وموقفه من متطلبات هذا الجسد، يلعبان دوراً حاسماً في طبيعة الكتابة وأشكالها، لأن موقف الإنسان من جسده يحدد أو يشير إلى موقفه من الحياة ككل، هنا يكمن المعنى ويتجسد النسق
إن علاقة الكتابة بالحرية، لا يحددها مستوى التطور التكنولوجي في بلد معين، ومستواها وأهميتها يكمنان أساساً في صراعها مع ذاتـها، ومع معطيات الواقع واتجاهات الجمهور، باعتبارها بؤرة للصراع الاجتماعي برمته، ومن هنا تأتي ضرورة النقد وأهمية الناقد، ومن هنا يأتي اقتران تاريخ الكتابة الحقيقية بالموت، الموت بأنواعه، الموت كعقوبة صادرة عن سلطة إلهية أو بشرية، أهلية أو رسمية، أو الموت المعنوي خوفاً من تلك العقوبة، أو الخوف من حقائق الحياة والعجز عن المشاركة في صناعتها أو اتخاذ موقف واضح منها، وعلى سبيل المثال فإن بعض الكتّاب الهاربين من جرائم الكتابة، يظل هذا الخوف يلاحقهم حتى وهم في مغترباتهم، لذلك نجد من يبقى عشرات السنين خارج بلاده دون أن يشير في مداخلاته الثقافية إلى سبب اغترابه، فيتسرب هذا الخذلان إلى كتابته فتأتي دون روح، دون معنى أو إيقاع لأنها دون موقف، وإذا ما تشبثت كتابته بحيوية معينة فسيكون الأمر ضمن حدود ضيقة، لأن هذا النوع من التخاذل، يعمي بصيرة الكاتب لدرجة لا يقوى معها حتى على كتابة تجربة الخذلان ذاتها، فاغتراب الكتّاب العرب وحلولهم في أوروبا وسواها، على الرغم مما ينطوي عليه من مرارة إنسانية، لا يعني بذاته اغتراباً أو نفياً للثقافة أو الكتابة، إلا إذا كانت شجاعتهم العقلية والروحية منفية أصلاً، لشدة ما يعانونه من رعب غير معلن من الحياة ذاتها، من اللغة والجسد والسلطة والصراع واحتدام العقل الإنساني ومتطلباته الكثيرة
وإذا كان المغترَب، بمعنى الابتعاد عن المكان الأول، هو حالة استثنائية، فهو لجهة التأمل فيه يبدو مثل كل الحالات التي يمكن إدراكها بشكل أفضل من خلال تحديد ومعرفة نقيضها، أي الإقامة في الوطن، فإننا سنكون هنا أمام مفارقة، لأن الإقامة داخل الوطن هي نقيض شكلي لمفهوم الاغتراب، وعبر هذا المدخل، فإن غربة المثقف كثيراً ما تطل برأسها من داخل اللغة، سواء غادر بلاده أم ظل مقيماً فيها، وسنجد أن الاغتراب النفسي هو العائق الداخلي عند هذا النمط من المثقفين، الذي يحول دون قدرتـهم على تفكيك اللغة فكرياً وجمالياً، ومواجهة مكنوناتها وحقائقها التي هي حقائق ومكنونات الحياة ذاتها، فالكتابة ليست مجرد رغبة، بل هي موقف حضاري بالمعنى العميق للكلمة، والمثقف المغترب نفسياً بهذا المعنى يبقى مغترباً حتى عندما تتحقق له حقوقه المدنية والسياسية والفكرية، لأن الإشكالية مستمرة في داخله وداخل لغته ولا علاقة لها بالمكان بالضرورة، فالمواجهة تحدث داخل اللغة، أي داخل علاقات الوعي التي يتشكل منها موقف المثقف، موقفه مما تحمله اللغة من دلالة ومعنى ومسؤولية، وكذلك موقفه مما يجري في الواقع، حيث يترابط الموقفان فينعكسان على طبيعة النص وقيمته، وضمن التباسات التجربة، أصبح بالإمكان الحديث عن ظاهرة ( فصاميي الاغتراب )، وهي ظاهرة تمثل إحدى حالات الفصام الأدبي القائمة دون أن ينتبه إليها أحد، تتعلق بأولئك الذين أصبح يشكل المغترب لديهم فصاماً! إذ ليس بوسعهم الاقتراب من مفردات ومواضيع معينة، فهي من محرمات فصاميتهم، وهم بدل عيش الحرية وفصاحة الموقف تقتلهم رطانة الخوف والتردد، وربما كان ترددهم هذا مقصوداً أي كان نفعياً وانتهازياً، لأن شدة خذلانهم أفقدتهم القدرة على رؤية الحياة بطريقة ديمقراطية، أي بطريقة شجاعة ومتحضرة، الأمر الذي أفقدهم القدرة على مواجهة الواقع من جهة، وعلى تقبّل الآخر المختلف عبر الحوار المفترض من جهة أخرى، وهذا هو الجذر الخفي الذي يقف وراء تقمّص دور الضحية
إن إحدى أخطر صفات فصاميي المغترب هي فقدان القدرة على الحوار الديمقراطي، لا مع الآخر المغاير فحسب، بل ومع الذات أيضاً، لأن بداية أي حوار حقيقي تنشأ وتتطور داخل الذات، لكن الذات المخذولة هي ذات استبدادية بالنتيجة، لأن الخذلان لا يمكن أن يُنتج حرية، الحرية هي أساس الحوار، وتعطيلها يشكل تعطيلاً لديناميكية الوعي الإنساني، وبالتالي إحباطاً لمشروع الكتابة، لأن أي كتابة جادة تنطوي على موقف واضح ومحدد، وكمثال على غياب الحوار بهذا المعنى تحديداً، نلاحظ العديد من كتّاب البلاد العربية، الذين تخلوا عن أيديولوجياتهم وانخرطوا في «موضة» ادعاء ( الديمقراطية ) والدعوة إليها، ولكن دون أن نقرأ لهم أي مراجعات لتجاربهم الذاتية مع تلك الأيديولوجيات والثقافة الثورية التي استفادوا منها وعاشوا في كنفها طويلاً، لنعرف ما هي ظروف ومبررات انتمائهم لتلك الثقافة، وما هي الضرورات التي جعلتهم يتحولون إلى ديمقراطيين أو ليبراليين بين ليلة وضحاها؟!.. وهل ارتكبوا أخطاء خلال تجربتهم السابقة، أم كانوا مجرد ضحايا لواقع مضطرب؟!.. وبأي معنى؟!.. هل الديمقراطية «موضة» أم قناع نفعي أم موقف حضاري يقتضي الشفافية والجرأة في مواجهة الذات والآخرين؟ |
|
|
|
|
|
|
 |