واجه الفكر القومي ومشروع النهضة الحديثة في مطلع القرن العشرين تحديات كبيرة تمثلت بظهور تيارات فكرية تحولت بحكم عوامل متعددة إلى حركات سياسية لها شعاراتها وتنظيماتها الخاصة, المتعارضة مع قيم المجتمعات العربية التي تربطها قواسم مشتركة أهمها مقاومة المشروع الاستعماري سابقاً والوجود الصهيوني في قلب الوطن العربي لاحقاً.
وبحصول العديد من الأقطار العربية على استقلالها, وبزخم الحركات القومية العربية الناشطة, حقق الفكر القومي إنجازات هامة, وخاصة في مصر بعد تأميم قناة السويس والانتصار على الغزو(البريطاني, الفرنسي, الإسرائيلي) ومع نجاح حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية في وضع منهاج عمل فكري وسياسي شامل لنشر قيمه ومبادئه ولإعادة تثوير الجماهير, ورفع قدرتها لمواجهة التحديات الداخلية, والخارجية للأمة وخاصة المشروع الصهيوني وإحباط مخططاته لفرض الأمر الواقع على الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة كان لابد أن يواجه المد القومي النضالي العديد من التحديات والتي يمكن إجمالها بالآتي:
التحدي الأول: الماركسية.
تعتبر الماركسية واحدة من أهم التحديات التي وقفت ضد انتشار التيار القومي العربي والتي ظهرت مع تشكل العديد من الأحزاب الشيوعية في الأقطار العربية, والتي تبنت نظرية مادية وأصبح معتنقوها يعرفون بالماركسيين أي أصحاب ( الفكر الماركسي ), ولكن قصور هذا الفكر في فهم العلاقة بين (الفرد, الدولة, القومية), وقناعته بأن القومية ستتحول بحكم التطور إلى العالمية, وعدم قدرة هذا الفكر على التكيف مع الواقع, جعل الأحزاب الماركسية تضعف لعجزها الفكري والعملي من ناحية ولوقوف التيار القومي في مواجهتها من ناحية ثانية, وكان أهم أسباب انحسارها تفكك الاتحاد السوفييتي, وانقسام المعسكر الاشتراكي, وخروج العديد من الدول التي اعتمدت النظام الماركسي في إدارة بلدانها من منظومتها, وانحيازها إلى معسكرات غربية مناهضة لهذا النهج الفكري.
التحدي الثاني: السلفية.
المواجهة الثانية للفكر القومي العربي كانت مع الأحزاب السياسية الدينية المتعصبة , التي تمثلت بالفكر السلفي الذي يهدد العروبة والإسلام على حد سواء, وذلك بالدعوة إلى إقامة نظام حكم على غرار نظام الحكم في صدر الإسلام, وإلى رابطة دينية تحل محل الرابطة القومية, والعمل بكافة الوسائل للوصول إلى هذا الهدف ولو بطرق غير شرعية, وغير ديمقراطية, وشرعنه الخروج عن أوامر الدين, والسلطان, واستخدام العنف وسيلة لفرض هذا الفكر على المجتمع عن طريق الجماعات التكفيرية, وروّج معتنقو هذا التيار بأنه أتى رداً على انتشار الفكر العلماني التحديثي المتأثر بالغرب وعلى القوميين العرب أيضاً ( ).
وتلخصت دعوة السلفية بتكفير كل من يعارض نهجهم وأفكارهم والاعتماد على بدع مستحدثة, ومثّل هذا تحدياً خطيراً على واقع دعاة الفكر القومي, كونه يستند على قاعدة الاتصال والتنسيق مع الغرب الاستعماري, وحتى الصهيوني, للوصول إلى الأهداف المحددة لهذا التيار وهو إزاحة النظم القومية, والوصول إلى السلطة بالقوة, وتمهيداً للوصول إلى أهدافهم فقد تم التنسيق سراً بين هذه الجماعات الإسلامية والغرب الاستعماري وبمعرفة الصهيونية العالمية, إذ تمّ مؤخراً افتعال ما يسمى "الثورات العربية" خدمة لهذا التيار, وقد أصبح جلياً الدور المشبوه الذي لعبته قوىً خارجية في توجيه هذا الحراك الملتبس, والدليل على ذلك هو دور اليهودي الصهيوني (برنارد هنري ليفي) في توجيه الحراك العربي عبر أدواته داخل العديد من البلدان العربية كليبيا, ومصر, وتونس, وسورية لتقويض المجتمع وضرب الاستقرار وذلك خدمة للصهيونية التي تسعى إلى تفتيت الوطن العربي وتمزيقه .
ورداً على هذا التحدي اعتمد دعاة الفكر القومي أَُسلوباً علمياً وحضارياً باعتبار الإسلام والدين بشكل عام هو موضع احترام وتقدير, وهو مصدر القيم العليا في تنظيم المجتمع.
هذا الفهم الصحيح لقضية الدين من وجهة نظر الفكر القومي مكّنه من مواجهة تحدي السلفية وكشف أهدافها المشبوهة والواضحة لشريحة واسعة من أبناء الشعب العربي.
التحدي الثالث: التجزئة.
يعتبر واقع التجزئة من التحديات التي واجهت الفكر القومي العربي والذي نشأ لعدة أسباب وظروف داخلية وخارجية, وإن التداخل مابين القطرية والقومية العربية, عكس واقعاً مريراً وقاد إلى اتجاهات خطيرة أفشلت بناء الوحدة العربية وأنتجت دولاً عربية مليئة بالأزمــات والإشكالات حتى داخل الدولة الواحدة, من تخلف ,وتبعية, وانعدام للديمقراطية, فالتصادم الشديد بين النزعتين القومية و القطرية أفرزت أحلافاً متناقضة يدور محورها بين القضية الأم فلسطين, وبين الارتباط الوثيق مع الغرب وأدواته, مما زاد من خطورة واقع التجزئة على العرب ومستقبلهم.
التحدي الرابع: الأمن القومي العربي.
ينبع هذا التحدي أولاً من "وجود الكيان الصهيوني في الأرض العربية وخطط هذا المشروع على تفتيت وتمزيق هذه الأمة واستهداف وجودها القومي, وتقسيم البلدان العربية القائمة حالياً إلى دويلات اثنية ومذهبية متصارعة فيما بينها وتابعة في قرارها للكيان الصهيوني".( )
يضاف إلى ذلك الخطر القادم من دول الجوار العربي والتهديد المستمر لهذا الأمن الذي لم تستطع الدول العربية حتى تاريخه وضع الأسس الكفيلة لحمايته عن طريق العمل الجماعي الموحد ضد هذه الأخطار, لا بل في كثير من الأحيان فإن بعضاً من الدول العربية تلعب دوراً أكثر خطراً في ضرب استقرار دول أخرى استعانةً بالأجنبي حمايةً لمصالحها الذاتية, لذلك فإن قضية الأمن القومي ترتبط بشكلٍ وثيق مع واقع التجزئة والتبعية, فلا خلاص لهذا الواقع إلا بتحقيق الوحدة العربية, والعمل على إنجازها, للدفاع عن وجود الأمة واستعادة دورها في مسيرة الحضارة والتقدم.
التحدي الخامس: العولمة.
تعتبر العولمة أحد أهم التحديات لما تفرزه هذه الظاهرة من سيطرة الشركات الكبرى في العالم على اقتصاديات الدول الضعيفة كونها تعتبر أن العالم حيز جغرافي واحد ووحدة اقتصادية شاملة, وأن دور هذه الشركات هو سلب مقدرات الشعوب, وكون الاقتصاديات غير متكاملة فهي غير قادرة على مواجهة هذا التحدي,"وللتغلب على هذا الواقع لابد من ترابط اقتصاديات العرب المجزأة لإحداث التكامل الاقتصادي, وإحداث التنمية الشاملة تلبيةً لمطالب المجتمع العربي, وأخذ ما يفيد العرب من ظاهرة العولمة ورفض ما يقوض اقتصادياته, وما يسلب هذه الأمة قدراتها الاقتصادية, والسياسية, إضافةً إلى ذلك العمل على تحصين ثقافة انفتاحية على العالم الجديد، وكذلك المحافظة على التوازن بين الثقافة القومية والثقافة الوافدة عبر وسائل الاتصال العالمية الحديثة، وهذه معركة حضارية معقدة على العرب خوضها بدراية وحكمة ومعرفة" ( ).
التحدي السادس: الجامعة العربية وإخفاقها في العمل العربي المشترك.
فشلت الجامعة العربية في تحمل المهام الموكلة إليها عبر تاريخ وجودها منذ عام 1945 ولعبت في كثير من الأحيان دوراً سلبياً، فبدلاً من جمع شمل العرب وتوحيد صفوفهم تجاه القضايا الداخلية والخارجية, مارست أدواراً تمزيقية ومنحازة وأحياناً ملتبسة، وخاصة في الآونة الأخيرة حيث أصبحت حكراً على دول محددة ذات نفوذ مالي كبير تحاول أن تجعل منها منصة لضرب وحدة العرب وتماسكهم، لا بل شرعنت ضرب ليبيا من قبل قوات "الناتو" وهي تحاول الآن استقدام التدخل الخارجي إلى سورية , وهذا الدور الذي تلعبه جامعة الدول العربية هو انعكاس لواقع الدول ذاتها، فدول الاعتدال تحاول رسم سياسة الجامعة وفق مصالحها وارتباطاتها الغربية, أما المحور المقاوم بقيادة سورية فيحاول رأب الصدع العربي وتوحيد الصفوف والعمل على لمِّ شمل الأمة والوقوف بكل قوة ضد مؤامرة إسقاط سورية ودورها العربي، وقد عبّر السيد الرئيس بشار الأسد عن ذلك في الخطاب الذي ألقاه في 10/1/2012، وبيَّن أهداف الجامعة المغتصبة والمجيرة لصالح دول الخليج في إبعاد سورية عن دورها العروبي والقومي، فأبان: "العروبة بالنسبة لسورية ليست شعاراً بل هي ممارسة... والقضية القومية بالنسبة لسورية ليست شعاراً وإذا كان البعض يسعى لتعليق عروبتنا في الجامعة العربية إنما يعلق عروبة الجامعة، ولا يستطيع تعليق عروبة سورية...".
وقد ألمح السيد الرئيس بشار الأسد سابقاً في كلمة ألقاها في افتتاح القمة العربية الـ 21، في الدوحة إلى الخلافات العربية، فقال: "النقطة الثانية من الضوابط وهي حول عدم طرح مبادرات متعلقة بقضايا محددة تخص دولاً معينة دون موافقة تلك الدول الأساسية المعنية مباشرة بتلك القضايا، انطلاقاً من مبدأ الوقوف إلى جانب بعضنا البعض.. وليس الحلول محل بعضنا البعض"... وأضاف السيد الرئيس فقال: "... فإذا بقي خلاف فلنناقشه وجهاً لوجه.. ولكن مهما اشتد الخلاف فلا يجوز أن يصبح الخلاف خارج الإطار العربي.."( ).
التحدي السابع: تحدي التنمية العربية.
أصبح واقع التجزئة في الوطن العربي تحدياً يفرض عقبة أساسية أمام التنمية الاقتصادية العربية وبالتالي فإن تنمية متوازنة عبر توحيد الجهود واستثمار الطاقات الاقتصادية العربية وفق مشروع اقتصادي يحقق الوحدة الاقتصادية العربية، هو الكفيل بحل مسألة الاختناقات في التنمية الاقتصادية القطرية المتمثلة بالتوزيع غير المتوازن لعوامل الإنتاج بين البلدان العربية، والتحول إلى الإنتاج الكبير والاستفادة القصوى من مزايا الموقع الجغرافي ودمج الموارد البشرية، لإقامة صناعات اقتصادية لإنتاج السلع الإنتاجية والاستفادة من التقدم التقني العالمي لتمركز الصناعات العربية ، بحيث تصبح التنمية هدفاً ومنطلقاً وأساساً لإقامة وحدة اقتصادية شاملة .
إن تطلع العرب نحو الوحدة هو مشروع يهدف لتحديد موقع العرب على خارطة الفعل الحضاري الدولي بمختلف مقوماته وتشعباته( ). وهو حقيقة وضرورة ملحّة في عصر التكتلات البشرية والاقتصادية والسياسية الكبرى ولن يستطيع المشروع الغربي طمس الهوية القومية للأمة العربية, بل سيزيد من عزيمة الأحزاب السياسية القومية العربية في رصّ الصفوف لإعادة الحياة إلى روح الأمة, بالتفاف الجماهير حول أهدافها الحقيقية, وخاصةً الوحدة بجميع مضامينها, والبناء على ما تم إنجازه وتعرية كافة المؤامرات والخطط التي تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة , وتجزئتها عبر أدوات داخلية وخارجية.
هذا وقد لعبت سورية وعبر ممارستها للعمل العربي المشترك دوراً بارزاً في مواجهة تحديات نهوض المجتمع العربي, ووقفت بكل قوة بوجه مشاريع (الكيان الصهيوني) وعملت على إفشال مخططاته, وساندت الفلسطينيين, ووقفت ضد التدخل العراقي في الكويت سابقاً, وضد احتلال العراق من قبل أمريكا وكذلك ضد التدخل الغربي( الناتو) في ليبيا مؤخراً, ومع كل الظروف التي تمر بها حالياً من مؤامرة كونية تستهدف وجودها أرضاً وشعباً فقد أدرك الشعب العربي السوري أن السبب المباشر وراء الحملة على سورية هو دفاعها عن الهوية القومية, وأبان السيد الرئيس ذلك حيث قال: "يريدوننا من دون ذاكرة لكي يرسموا لنا مستقبلنا ومن دون هوية لكي يحددوا لنا دورنا".
وقد رسم سيادته الخط الصحيح بوضوح عندما قال: "إن قدر سورية هو الاعتزاز بالعروبة والدفاع عنها وصونها لأنها الأساس الوحيد لمستقبل مشرق ومشرف نبنيه من أجل أبنائنا"( ).
وسورية في الظرف الراهن هي التي ستحدد مسار العرب المستقبلي بعد أن بدأت مسيرتها الإصلاحية وأقرّت دستورها الجديد بعزيمة أبنائها لصد المؤامرة عنها وعن العرب جميعاً لخلق البيئة الحاضنة لدولة ديمقراطية, ونواة لدول عربية أخرى, للنهوض بالواقع العربي نحو التطور والتقدم والحرية.
إن التحديات أمام رواد الفكر القومي العربي جسيمةٌ وخطيرة, وخاصةً في ظل الظروف الدولية والإقليمية الحالية, التي تفرض على الأمة وجوب الدفاع عن وجودها وحدودها, وإن مستقبل هذه الأمة مرهون بمشروعِ نهضويِ عربي مدعوم من شرائح المجتمعات كافة، إضافة إلى نخب سياسية واعية تمثل الواقع الحقيقي لنقل واقع الأمة نحو التقدم والازدهار وخلق واقع جديد يضع الأمة العربية في مصاف الدول الأخرى المتقدمة, دولة منيعة وقوية تحقق طموح الجماهير في الوحدة والحرية والعدالة.