في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1947م أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرارها الجائر (181) القاضي بتقسيم فلسطين، غير أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبرت منذ العام 1977م هذا اليوم يوماً عالمياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي عانى الأمرين جراء النكبة التي لحقت به.
ورغم أن النكبة الفلسطينية مثلت حدثاً بالغ المأساوية وجرحاً عميقاً لايزال دامياً فإن الصدمة التي خلفتها أسهمت في النهوض الفكري العربي، وتصاعد الحركات التحررية في المنطقة العربية.
وقد شكلت القضية الفلسطينية ونكبتها، جزءاً كبيراً من تفكير العرب طوال العقود الماضية، فالإحساس بالهزيمة لم يلبث أن تراكم في العقل الجمعي العربي، ليفرز إرادة تمثلت في المقاومة.
يذكر المؤرخ الفلسطيني الدكتور عبد القادر ياسين أن مدرج الجامعة السورية، بدمشق، شهد مساء 23/7/1951م، محاضرة ألقاها وكيل ندوة العلماء في الهند، أبو الحسن علي الحسني الندوي، بحضور رئيس المجلس النيابي السوري، آنذاك، الدكتور معروف الدوالبي، وعميد الجامعة السورية، الدكتور قسطنطين زريق، وأساتذة الجامعة، وطلابها، وعلماء دمشق، ووجهائها، وشبابها.
في هذه المحاضرة ألقى الندوي الأضواء على أسباب النكبة، فبيّن أن «التبعة العظمى يقع معظمها على عاتق زعماء العرب، وقادتهم الذين لم تؤاخذهم ضمائرهم على فعلتهم، بل استمروا يراوغون، ويداورون، ويبيعون، ويشترون، كأن شيئاً لم يقع». ولم يبرئ الندوي الشعوب العربية والإسلامية فيما حدث.
ويعتقد الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري أن وعي النكبة في الثقافة العربية بدأ في وقت مبكر جداً «قد يُذهل القارئ حين يكتشف أن الكتيب الذي نحت الكلمة وسمى الحدث باسمه العربي، صدر في شهر آب 1948م، وهو للمفكر والمؤرخ والجامعي السوري المعروف وأحد مؤسسي الفكرة القومية العربية قسطنطين زريق، الذي أصدر كتابه "معنى النكبة"، قبل أن تنتهي الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، ودعا إلى فهمها واستخلاص دروسها في وقت مبكر جداً. وبعده توالت مجموعة من الأعمال الفكرية والأدبية والتاريخية، في محاولة لاكتناه معنى الحدث، ووضعه في سياقه، واعتباره نقطة انطلاق لتغيير الحياة العربية، وليس من الخطأ اعتبار الحركات الانقلابية في السياسة العربية التي جسدتها الناصرية في انقلابها الثوري عام 1952 في مصر، جزءاً من وعي النكبة، الذي تبلورت بذوره الأولى في كتاب زريق».
وقد اعتبرت مختلف الفصائل القومية العربية فلسطين قضية عربية تقع مسؤوليتها على الأمة العربية كاملة، لذا كان طبيعياً أن ترى في الوحدة العربية الطريق لتحرير فلسطين، وإن اختلفت تلك الفصائل في ما بينها في الآلية، والهدف، وبالتالي في التكتيكات. فحزب البعث والقوميون العرب مع تحرير كامل التراب الفلسطيني، بينما اضطر عبد الناصر إلى التعامل مع الواقع الدولي، بالإعراب عن استعداده للسلام، من وقت لآخر. وأغلب الظن أن هذا جاء بسبب ترؤس جمال عبد الناصر لدولة، بينما كان "البعث" حينها و "القوميون العرب»" تيارين سياسيين.
أما "حركة القوميين العرب"، فقد رأت في الوحدة الطريق إلى تحرير فلسطين، ربما لأن الفلسطينيين قاموا بقسط غير هيّن في تأسيس "الحركة"، سنة 1951م، لكنها ركزت على الوحدة، دون إضفاء طابع اجتماعي على هذه الوحدة، مؤيدة أية وحدة بين قطرين عربيين أو أكثر، بغض النظر عن الطبيعة الاجتماعية للأنظمة التي تتوحد.
واعتبرت «الحركة» كتاب قسطنطين زريق "معنى النكبة" مرجعها الأساسي في صدد نكبة فلسطين. وقد أكد زريق في مقدمة كتابه بأن هزيمة العرب في فلسطين ليست "بالنكسة البسيطة، أو بالشر الهيّن العابر، وإنما هي نكبة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتُلي به العرب في تاريخهم الطويل".
ورأى زريق أن القضية العربية ما عادت قضية استقلال ووحدة فحسب، بل باتت، بعد قيام "إسرائيل"، "قضية بقاء أو زوال للأمة العربية كأمة، قضية وجود ومستقبل وآمال في حياة الحرة الكريمة"، داعياً إلى ضرورة تقوية الإحساس بالخطر الصهيوني، باعتباره "الخطر الأعظم" على الكيان العربي وإلى تعميق الإحساس به من خلال إنشاء "علم للنكبة".
وقد رأى المعبرون عن الفكر القومي العربي في كتاباتهم التي راحت تصدر منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين أن هذا الخطر الصهيوني لا يمكن أن يُرَدَّ إلاّ بقيام كيان عربي قومي متحد، معتبرين أن كل خطوة نحو الوحدة هي خطوة في سبيل النصر، وكل خطوة بعيدة عن الوحدة هي سير أكيد نحو الهزيمة.
أما التيار اليساري العربي، وانطلاقاً من موافقة الأحزاب الشيوعية العربية على التقسيم، فإنه لم يحبذ الدخول في حرب 1948م، ورأى في الهزيمة التي حاقت بالجيوش العربية نتيجة متوقعة.
ومن العناوين التي انطوت على هذه المواقف، والتي نُشر معظمها في بيروت، نذكر: قدري حافظ طوقان، «بعد النكبة» (بيروت: دار العلم للملايين، 1950م)؛ نبيه أمين فارس، «غيوم عربية» (بيروت: دار العلم للملايين، 1950م)؛ علي ناصر الدين، «قضية العرب» (بيروت: دار الحكمة، 1955م)؛ إميل الغوري، «المؤامرة الكبرى.. اغتيال فلسطين ومحق العرب» (القاهرة: دار النيل، 1955م)؛ شفيق ارشيدات، «فلسطين تاريخاً، وعبرة، ومصيراً» (بيروت: دار النشر المتحدة، 1961م)؛ محمد فاضل الجمالي، «كارثة فلسطين وأثرها في الواقع العربي» (بيروت: دار الكتاب الجديد، 1965م)؛ أنيس صايغ، «فلسطين والقومية العربية» (بيروت: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 1966م).
ويعيد المفكر اليساري اللبناني كريم مروة، في طرح له بمناسبة مرور خمسين سنة على النكبة، أسباب النكبة إلى ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: هي أن المشروع الوطني الفلسطيني كان، منذ البدء، محكوماً بمشروع نقيض، هو المشروع الصهيوني، الذي تواطأت في العمل لدعمه، معظم دول العالم، من السلطنة العثمانية قديماً، حتى الدول الاستعمارية، التي احتلت مكانها في المنطقة، معتبراً أن المشروع الصهيوني هو، في الأساس، مشروع استعماري. وأغراضه أغراض استعمارية. أما فلسطين فلم تكن إلا ذريعة.
المسألة الثانية: هي أن المشروع الوطني الفلسطيني كان، على الدوام، حاضراً بين فلسطينيته وبين عروبته. وكان الخطأ الملازم للقوى الوطنية الفلسطينية هو توزعها بين اتجاهين: اتجاه يدعو للقرار الوطني الفلسطيني المستقل.. واتجاه يدعو لجعل القرار الفلسطيني قراراً عربياً، بالكامل. وهذا التردد داخل المشروع الوطني الفلسطيني، أدى إلى إضعافه، رغم ما كانت تكتسبه القضية الفلسطينية، بذاتها، كقضية عادلة، من احتضان عربي دولي.
المسألة الثالثة: هي أن الحكومات العربية لم تقم بدور الحاضن للقضية الفلسطينية، ولم يكن هذا الاحتضان –في المحصلة- في صالح المشروع الوطني الفلسطيني، وذلك أن القضية الفلسطينية كانت، في معظم الأحيان، ورقة بيد هذه الحكومات، أكثر منها قضية بذاتها، لشعب فلسطين.
ولا يقل حضور قضية فلسطين في المغرب شأناً عن حضورها في المشرق العربي، غير أن هناك اختلافاً لابد من الإشارة إليه. ففيما يتميز المغرب العربي بالتجانس الديني، فإن المشرق، وطنُ التنوِّعِ الديني، والطائفي، حيث الإسلام والمسيحية من جهة، وحيث الفرق والمذاهب الإسلامية كلها من جهة ثانية.
وقد قدّر المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، في كتابه "الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية"، أن هزيمة العرب في سنة 1948م، وبالتالي قيام "إسرائيل"، كانا "بداية تحوّل عميق في الوعي العربي، فبعد أن كان هذا الوعي قطرياً (وطنياً) في معظم البلاد العربية، أخذ يتحول وبسرعة مدهشة منذ (الكارثة) وبسببها إلى وعي قومي، إلى وعي بوحدة الأمة العربية ووحدة مصيرها". وهكذا أصبحت النكبة ـ كما يرى الجابري ـ "المحرك، بل المبلور، للعنصر الثالث المؤسس للشعور القومي العربي الحديث، عنصر (الألم) و(الأمل)، عنصر (التهديد الخارجي) - ومن ثم وحدة المصير - الذي يشكل، مع وحدة اللغة ووحدة التاريخ، العناصر الأساسية المؤسسة للقومية العربية".
وتوقّع الجابري، أن يتجه الوعي العربي، بعد حصار الثورة الفلسطينية "في بضعة حصون ومواقع"، وبعد أن تضاءل الأمل سواء بـ "تعميم" الثورة الفلسطينية على الوطن العربي كله، أو بدخول دول "المواجهة" ـ أو ما تبقى منها ـ في "حرب طويلة الأمد" مع "إسرائيل"، نحو تبنّي موقف جديد هو "الدعوة إلى إنهاء المشكل الفلسطيني - مؤقتاً - وبأية طريقة سلمية، لكي يفسح المجال لعوامل التغيير لتفعل فعلها داخل كل قطر عربي ولصالح التحرر العربي... ومن ثم لصالح التحرير الحقيقي والنهائي لفلسطين".
لكن رأي الجابري عارضه الكثير من المفكرين النقديين العرب، الذين يرون أنه وبعد سقوط الرهان على الوحدة العربية طريقاً لتحرير فلسطين، وسقوط الرهان على تحرير فلسطين سبيلاً إلى الوحدة والتغيير العربيين، فإن قضية فلسطين لن تجد حلاً لها إلاّ بعد نجاح العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، في تملّك أسباب الحداثة المجتمعية، وخروجهم من "أزمة الآفاق المسدودة"، التي صاروا يواجهونها.
وقد عبّر المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي، في كتاباته الأخيرة، تعبيراً صادقاً عن هذا الرأي.
[email protected]