|
|
|
|
|
خفيف الظل أو ثقيله
بقلم/ مصطفى الكيلاني
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر و 27 يوماً الإثنين 02 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 09:54 م
يُقال فلان خفيف الظل أو ثقيله، حتى لكأن الظل وجود حسي ملموس قابل للحدّ بأصغر الوحدات الوزنية وأكبرها وصولاً إلى طن بل أطنان، كأن يمر بك شخص وتستمع إلى ما تنبس به شفتاه، فيتبادر إلى ذهنك ذلك الحلم:
هذا خفيف الظل أو ثقيله، ومن غريب ما يعترض سبيلك في الحياة شخص يجالسك في مقهى من غير استئذان ويقلّب أوراقك مازحاً لمعرفة ما فيها، ويناقشك في كتاب لم يقرأه ، ويبالغ في تقبيلك وهو الذي رآك في الشغل أو الشارع يوم البارحة، ويسمح لنفسه بالتدخل في حديث جماعي لحظة وصوله دون الاستماع إلى تداعياته السابقة، فيبدي رأياً ويعارض رأياً، ويسعى جاهداً إلى تفنيده بكل الوسائل المتاحة، كالرفع من الصوت لترهيب الحاضرين والتشويش عليهم كي يذعنوا للأمر الواقع ويستجيبوا لصوت الحكمة الذي هو صوته دون منازع. وإذا بدا له أن يشي بأسرار ثمينة لمَنْ يستحق ذلك عند فضح «أمانات» بعض المجالس فهو لا يرى أي حرج في ذلك، بل يساوم بتلك الأسرار الخاصة جداً بوهم مزيد التقرّب من قلوب الحاضرين، وتراه يضحك أحياناً دون سبب في المواقف الحرجة، ويكتئب حينما تعم المجلس موجة فرح لخبر سار يخص أحد الجالسين، بل يربد وجهه وتجحظ عيناه ويكاد يفتك به الحقد ويفتّته الحسد.
ومن الغريب أيضاً ذلك الشخص الذي يناصبك العداء من غير سبب، فيسعى إلى إلحاق الضرر بك كلما أتاحت الفرصة له ذلك، إذ نراه يتصيّدها لتقويلك ما لم تقله والزج بك في مواقف صعبة إثر وشاية كاذبة، وإذا افتضح أمره ابتسم لك مبرراً فعلته الشنيعة تلك بالممازحة التي سرعان ما انقلبت إلى جدّ لم يكن في حسبانه، وقس على هذا عديد الأقوال والأفعال الدالة على أنه من قبيل أصحاب الظلال الثقيلة التي لا تُحتمل.
ومن العجيب المفرح أن يعترض سبيلك خفيف ظل يُتحفك بمزحة تذهب عنك الغمّ وتجعلك تقبل على يومك بأمل وانشراح رغم قساوة الحياة في هذه الأيام، وإذا صمت هذا الرجل عند المجلس في مقهى أو غيره، وجدت في صمته هدوءاً يبعث فيك طمأنينة المحبة الصادقة والثقة المتبادلة بين مَنْ يقول ومَنْ يستمع إلى القول بأريحية مشتركة، فلا يسعى إلى النميمة والوشاية وحديث الإفك وإفشاء السر ووضع شاشية هذا على رأس ذاك، كالوارد في أحد الأمثال الشعبية التونسية تدليلاً على مَنْ يسعون إلى إرباك الحياة وإثارة الفتن بين الناس.
ومن الطرافة في حديث أحدهم ممَنْ يتصفون بخفة الظل ماذكره لنا في أحد المجالس، حيث يلتقي أصحاب الظلال الثقيلة والخفيفة على حد سواء، لما يُعرف به فضاء المقهى كغيره من فضاءات التواصل المجتمعي الأخرى من استقبال لمختلف الوجوه والأطياف، فصديقنا هذا كان يُعاقر الخمرة ليلاً نهاراً، وله صولات وجولات في النزل والحانات الشعبية إلى أن قرر التوبة بتأثير الأهل وبعض الأصدقاء والجيران، فاتخذ له الصلاة نبراساً وأراد بها التكفير عن ذنوب سالفة، وبدا له أهمية حضور الجمعة، كأن ظل يبحث له عن أقرب موقع من الشيخ الإمام إلى أن تحقق له ما يريد.
وحينما شرع الشيخ الإمام في الصلاة بالجماعة استرخت جبّته عند الركوع كي تغطي صديقنا التائب إلى الظهر، ولأنه مغمض العينين خشوعاً لم يتفطّن إلى التفاف الجبّة به، فاندفع هذا الشاب المفتول العضلات عند التكبيرة حاملاً الشيخ على إحدى كتفيه لإلقائه أرضاً حدث به تقويض وضوئه، وإغضابه حد الزعيق الذي أنتج مع المشهد غير المعتاد في المساجد موجة ضحك جماعي عارمة، عقبها خروج صاحبنا جارّاً أذيال خيبته من الجامع، مقرّاً العزم بعد فضيحته على إنهاء التوبة والرجوع إلى هناك.
فكلما اشتد بنا الغمّ طلبنا من صديقنا الشاب، وقد أضحى اليوم كهلاً بمرور الزمن، إعادة حكايته عن التوبة التي لم تكن نصوحة رغم مايبديه شخص آخر من الامتعاض الحافز هو الآخر على الضحك، فهو الحريص في كل مرة على إسماعنا موّاله بخصوص حجّته الخامسة فالسادسة فالسابعة، وصلواته الخمس التي يؤديها في مواعيدها، واستقامة أبنائه الأخلاقية ذكوراً وإناثاً، ونجاح تجارته، ومزايا سيارته الفارهة الجديدة... ظلال هنا، وظلال هناك.
أما مرادف الظل في الاعتقاد المصري القديم فهو الروح.
كذا «خفّة » الظل و«ثقله» يراد بهما في خاتمة هذا الحديث أداء استعارة مفادها توصيف الروح الفردية مدحاً أو ذماً.
|
|
|
|
|
|
|
 |