الثقة المطلقة بالنفس والمرونة الفائقة والشجاعة وقوة الأعصاب والاستعداد للمخاطرة والمهارة التكتيكية العالية والتمسك بما يريد..هذا ماجاء فى نص التقرير السرى الأمريكى فى الشهور الأولى من بداية ثورة 23 يوليو 1952 واصفا نقاط قوة جمال عبد الناصر.
وعلى هامش حفل افتتاح 19 مشروعًا للقوات المسلحة وعلى غير المتوقع فاجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي الحضور بعد لحظة صمت قائلا: أن وفد الكونجرس الأمريكى خلال زيارتهم الأخيرة قالوا: أنت مش خايف من مصير الرئيس السادات الذي قتلته الجماعات المتطرفة..؟ استمر الرئيس السيسى وعلى وجهه ابتسامته المعهودة قائلا: فأخبرتهم أن الرئيس السادات رحمه الله أنقذ أرواح مئات الآلاف من المصريين، وإذا كانت حياتى ثمنها إنقاذ أرواح آلاف المصريين فهذا ثمن ليس كبيرًا..واستطرد الرئيس قائلا : "أنا أفكر في أمر واحد فقط وهو مصر وشعبها.....".
لم يكشف الرئيس السيسى السياق الذى دفع الوفد للبوح بهذه الكلمات غير المهذبة فى مثل هذه اللقاءات أومن من بين أعضاء وفد الكونجرس تحديدا رغم أنها تنبئ عن أن الحوار كان بخصوص اسلوب واستراتيجية مصر ـ السيسى ـ فى التعامل مع ملف الإرهاب عموما والإخوان على وجه التحديد والذى لاينسجم مع اسلوب واستراتيجية واشنطن فى التعاطى مع هذا الملف..ولايستبعد أن الحوار كان دائرا مابين الرئيس السيسى وبين أعضاء الكونجرس الأمريكى حول اللقاءات التى تمت مابين أعضاء الاخوان وأعضاء من الكونجرس نفسه وربما كان من بينهم من حضر للقاء السيسى الاخير الذى "تطاول"وقال " أنت مش خايف من مصير الرئيس السادات...."
مؤكد أن سياسات الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ انتخابه رئيسا لمصر بإجماع غير مسبوق لم تكن فى مجملها منضبطة تماما على خطى واشنطن التى لم "يخيل"عليها تصريحات الرئيس السيسى سواء عندما قال "ان العلاقات مابين واشنطن والقاهرة علاقات استراتيجية أو المطالبة بالمزيد من التعاون العسكرى .، تعتبرها واشنطن مجرد "كلام"لايعنى سوى أن السيسى لايسعى اطلاقا للمواجهة فى ظل تغريده المستمر خارج السرب الأمريكى الذى يريد أن تكون مصر على ماكانت عليه سواء فى عهد مبارك أو عهد مرسى أو حتى فى عهد السادات .
السادات يعد نموزجا لدى الكثير من أعضاء الكونجرس والدوائر الأمريكية الأخرى منذ أن طبق حرب أكتوبر كعملية "تحريك" وليس "تحرير" وحتى تسليمه لمفاتيح مصر للإدارة الأمريكية مرورا بما سمى "بطرد السوفييت وكامب ديفيد وتبعية الاقتصاد المصرى والقرار السياسى المصرى وتم استهلاكه حتى نهاية الكاس ونهاية الدور ليأتى الدور الآخر للرئيس مبارك والذى استمر ثلاثين عاما لينتهى الدور أيضا ويحل محله قمة المشروع التفتيتى للوطن ـ الشرق الأوسط الجديد ـ بمعاونة الإخوان ـ بعد الاعداد الجيد على أيادى الامريكان والمال الخليجى والرصيد ـ الروحى ـ للسعودية ، ليس فى مصر وفقط بل بأنحاء الوطن ولاسيما بعد تثبيت دور البعبع الإيرانى داخل الهياكل الحاكمة بممالك وايمارات الخليج العربى ..ولم ينتهى الدور لكل هذه الادوات بعد ولهذا تسعى واشنطن لاستثمار ماتبقى للإخوان وكافة روافدها ولكن وحدها مصر بعد صمود سورية من قلبتا الموازين فى ظل تحالف مساند لايقل تأثيرا دوليا عن الدور الامريكى .
تعى واشنطن أن مصر ـ الجديدة ـ صار خلفها قوى دولية لم تكن قبل ـ الربيع ـ وباتت مصر كما يردد ولاد البلد بجانبها ـ رجالة ـ فرضتها القيادة الجديدة ـ السيسى ـ واستثمرها بتنوع مصادر السلاح ويهدف لتنوع مصادر التنمية ،وتدرك مصر أن هذه التنمية المستدامة لتحقيق مطالب الشعب التى استنزفت على مدى 40 عاما لن يتحقق إلا بثلاثة طرق :المعونات العاجلة، الإستثمار الإنتاجى،القروض طويلة الأجل .، ولن يتحقق لها هذا إلا بالاستقرار الذى تريد واشنطن أن تقنع ـ مصر الجديدة ـ أنها وحدها من تستطيع تحقيق هذا الإستقرار فيما لو دخلت مصر بالكامل إلى حظيرة واشنطن لتعود لنفس السرب السابق على خلاف مايراه السيسى المسلح بالسند الشعبى ،مدركا أن تطبيعه لما تريده واشنطن يعريه تماما أمام السند الشعبى الذى لاتعتريه واشنطن أية أهمية لانها تريد "مؤدى"بلا ريش.
الرد الذى قابل به الرئيس عبد الفتاح السيسى ليس على مستوى الرسالة واضحة التهديد التى حملها وفد أعضاء الكونجرس الامريكى ،كان ينبغى أن يواجهوا بأن انغماس السادات لشوشته فى المشروع الأمريكى لم ينقذه من القتل ومن قاموا بإغتيال السادات هم أنفسهم صاروا حلفاء لواشنطن لتحقيق مشروعهم بالمنطقة الممتدة من الاطلنطى وحتى القوقاز وصولا لوسط إفريقيا ..نعم كان ينبغى أن يدركوا أن اسلوب واشنطن المتبع دوما فى إغتيال الرؤساء والتخلص منهم بطرق مختلفة وصلت أحيانا للخطف لايمكن لها أن تتحقق لقيادة مصر الجديدة .
** ألم يكن من الواجب أن يطلع الرئيس عبد الفتاح السيسى على وقائع ومواقف حدثت فى التاريخ المصرى تشبه ربما بصورة كربونية ما يحدث اليوم مابين مصر وواشنطن ..المؤكد أنه اطلع عليها وربما ومواقف أخرى هى مادفعته يوما لأن يقول :أن الرئيس جمال عبد الناصر كان محظوظا ،والمؤكد أنه يعى تماما أن ناصر كان مصريا وطنيا حتى النخاع ،وهو نفسه من سبق وقال :أننى تربيت سياسيا بقرائتى لكل ما كتبه الاستاذ محمد حسنين هيكل مما يعنى أنه قرأ ماكتبه هيكل حول حرب السويس 56 وعلى الأخص وقائع ويوميات بدأت بطلب شراء أسلحة لمصر من الولايات المتحدة بداية من اكتوبر 1952وكيف انتهت بصفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفييتي في عام 1955،وكيف اشترطت واشنطن الدخول في تسوية مع إسرائيل, ودخلت في الحلف الإسلامي الذي يضم تركيا وباكستان (مثلث أنقرة ـ القاهرة ـ كراتشي) لتستمر هذه المماطلة حتى مجئ وزير الخارجية جون فوستر دالاس إلى مصر في زيارة كان يروج فيها لسياسة (سد الفراغ) في الشرق الأوسط لتطويق الخطر الشيوعي ربيع عام 1953 , والتقى الوزير الأمريكي بجمال عبدالناصر... ثم انتقل إلى تفاصيل زيارة وليم فوستر والاتفاق المبدئي معه على شراء أسلحة أمريكية للجيش المصري, ثم بعثة علي صبري إلى واشنطن, ثم عودة هذه البعثة بغير سلاح, ثم الأعذار التي قدمت بعد ذلك لمصر تحللا من وعد وليم فوستر. وقال دالاس: ان موضوع بيع السلاح لمصر يصبح سهلا إلى أبعد حد إذا استطاعت مصر أن تصل إلى اتفاق مع بريطانيا خصوصا إذا كان الاتفاق في اطار نظام للدفاع الجماعي عن الشرق الأوسط. وسأل جمال عبدالناصر سؤاله الذي فتح المناقشة على آخرها: الدفاع عن الشرق الأوسط ضد من؟ وابتلع دالاس الطعم وأجاب: ضد الاتحاد السوفييتي, بالطبع.، مؤكد أن الرئيس السيسى اطلع على رد عبد الناصر على دالاس حين قال له
: بريطانيا هي الخطر وليس الخطر الاتحاد السوفييتي, هناك قاتل أراه بعيني واقفا على الباب ممسكا مسدسه, وأنت تقول لي: ان هناك قاتلا آخر واقفا ممسكا مسدسه على بعد خمسة آلاف ميل...وقال : وما أسهل أن أوقع معكم على اتفاق بالانضمام إلى حلف للدفاع عن الشرق الأوسط وهذا التوقيع سوف يقيدني ولكنه لن يقيد الشعب المصري لانه سوف يرفض الاعتراف بهذا القيد, وتحدث فجوة بين الشعب وحكومته, يشعر الشعب ان الحكومة لا تعبر عنه, تصبح الحكومة قيادة بغير جيش, ويصبح الشعب جيشا يبحث عن قيادة يثق بها...مؤكد أن الرئيس السيسى يعرف أن موقف جمال عبد الناصر هذا هو مادفع لتكوين حلف بغداد بدون مصر...
ولم يكن موقف جمال عبدالناصر مع دالاس هو الموقف الوحيد الذي اتسم بالاثارة, كان هناك موقف آخر مع السفير الأمريكي الجديد هنري بايرود.... مؤكد أن الرئيس السيسى اطلع عليها مرارا وربما أكثر مما جاء فى كتب هيكل الذى تربى عليها السيسى سياسيا على حد قوله... ففى عشاء حضره جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر مع كيرميت روزفلت وأريك جونسون مبعوثا الرئيس ايزنهاور وهنري بايرود وبدأ حديث ما قبل العشاء كان روزفلت وجونسون يسألان أسئلة متعددة وجمال عبدالناصر يجيب ويقول بين الحين والآخر: ان بايرود يعرف هذا كله ولقد قلته أكثر من مرة، وفجأة قال بايرود: سيدي الرئيس, انني أعرف هذا كله, ولكنني لا أعرف لماذا ضرب أحد رجالي اليوم في السويس إلى حد كان يفضي به إلى الموت.. فكان رد جمال عبدالناصر في هدوء: فينش ليس مجرد ملحق عمالي هو ممثل للمخابرات الأمريكية, وطلبنا إليكم أكثر من مرة أن يمتنع عن الذهاب إلى المناطق العمالية لكنه مازال يذهب وعليه أن يتحمل مايقع له . فقال بايرود: أخشى أن أقول يا سيدي الرئيس ان عمالكم تصرفوا بطريقة غير متحضرة . نظر عبدالناصر إليه, ومرت فترة صمت حبس فيها الجميع أنفاسهم, وفجأة أطفأ جمال عبدالناصر سيجارته في مطفأة على مائدة أمامه ثم قال: سوف أتركك الليلة تقرأ كتابا عن الحضارة المصرية وتاريخها البعيد وعندما تتعلم منه شيئا نتكلم مرة أخرى.. فقام جمال عبدالناصر ومعه عبدالحكيم عامر وسار معه حتى باب سيارته مبعوثا ايزنهاور روزفلت وجونسون يحاولان الاعتذار إليه لتكون نهاية بايرود فى القاهرة رغم اعتزاره مرارا.
والمؤكد أيضا بما لايدع مجالا للشك أن الرئيس عبد الفتاح السيسى يعرف ماحدث سواء من واشنطن أو من جمال عبد الناصر عندما شعرت المخابرات المركزية بأن صفقة الاسلحة السوفييتية هي مسألة جادة, طلب كيرميت روزفلت موعدا من جمال عبدالناصر الذي احس وهو يوافق على الطلب ان واشنطن ستمارس ضغطاً لمنع الصفقة, وكان أن اتخذ قرارا بإعلان النبأ قبل وصول روزفلت وكان رأيه أنه في حاجة الى تعبئة الرأي العام (سلاحه الأساسي والوحيد في مواجهة الضغط المنتظر, كذلك فإنه لا يستطيع ان يعطي الآخرين حق سؤاله وهو يرفض إذا سئل أن يجيب بغير الصدق, كما أن الإعلان عن الصفقة سوف ينقل الموقف خطوة الى الامام ويفرض على واشنطن ان تحدد رد فعلها) . ولم يجد جمال عبدالناصر مناسبة لإعلان النبأ سوى معرض صور للقوات المسلحة, لكن إعلان النبأ كان أكبر من أي مكان يمكن أن يعلن منه. يقول هيكل في مقال بصراحة نشره في يوم الجمعة 21 ابريل 1967: واذكر انني قابلت كيرميت روزفلت صباح يوم وصوله ـ وكان صديقا قديما من أيام اشتغاله بالصحافة وعندما كتب كتابه الشهير: (بترول العرب وتاريخهم) ـ وكان (كيم) يبدو في ذلك الصباح قلقا وعصبيا وقد قال لي: ليس هناك حل آخر غير إلغاء الصفقة مع الاتحاد السوفييتي, أو على الأقل التعهد بعدم تنفيذها فقال هيكل: (ظني كواحد من الذين يتابعون الأحداث ان كلا الطلبين مستحيل) قال (كيم) : إذن ستكون العواقب رهيبة ثم استطرد: إن الأمور قد تتطور الى قطع العلاقات الاقتصادية بيننا وبين مصر, ثم قد نقطع العلاقات السياسية, ثم قد نفرض حصاراً على الشواطىء المصرية لمنع وصول السفن الحاملة للأسلحة... وتقرر ان يأتي جورج ألن مساعد وزير الخارجية الى القاهرة وكان في جيبه انذار مكتوب من دالاس الى جمال عبدالناصر بوقف صفقة الاسلحة أو التعهد بعدم تنفيذها, والا.. وأبلغت رئاسة الجمهورية السفارة الأمريكية وأبلغت كيرميت روزفلت برسالة مضمونها
أن الرئيس جمال عبدالناصر سوف يستقبل جورج ألن وأن الصفقة مع السوفييت اصبحت أمرا واقعا لا يقبل البحث أو المناقشة خصوصا مع اي طرف اجنبي وان مصر ليست مستعدة لسماع انذار امريكي فضلا عن قبوله وإذا حدث اثناء مقابلة جورج ألن مع الرئيس جمال عبدالناصر ان بدر منه ما قد يفهم ولو بالتلميح على انه إنذار فإن الرئيس جمال عبدالناصر سوف يدق الجرس على مكتبه ويستدعي تشريفاتي الرئاسة ويطلب منه ان يسحب جورج ألن إلى طريق الباب مطرودا. . بعدها فإن الرئيس جمال عبدالناصر لن ينتظر بل إنه هو من جانبه سوف يخرج ليعلن قطع كل العلاقات مع امريكا.
مؤكد أن الرئيس السيسى اطلع على هذا كما اطلع على أن بايرود وروزفلت كلاهما قد اصبح واثقا ان جمال عبدالناصر (يعملها) ويطرد مساعد وزير الخارجية الامريكية من مكتبه إذا تصور انه يهدده أو انه يحمل اليه انذارا أو ما يمكن ان يوصف بأنه انذار, وقصد الاثنان مطار القاهرة ينتظران وصول جورج ألن, وعندما اقتربت طائرته ودخلت المجال الجوي طلبا الإبراق اليه برسالة عاجلة تسلم اليه في الطائرة قبل هبوطها, وكانت الرسالة تقول له:إن الموقف في القاهرة قابل للانفجار ومن رأينا ـ نحن الاثنين ـ ألا يظهر تلميح أو تصريح من كلامك مع الصحافيين الذين ينتظرونك في المطار أنك تحمل تهديداً أو إنذارا الى عبد الناصر. ونفذ جورج ألن النصيحة, وسأل: هل يستطيع عبدالناصر ان يطردني من مكتبه؟ فقال روزفلت: (نعم يستطيع) ذهب جورج ألن لمقابلة عبدالناصر, ووجد مناسبا ألا يخرج من جيبه على الاطلاق رسالة دالاس المكتوبة مستعيضا عنها برسالة شفهية قام هو بإعدادها عن الرغبة في حسن العلاقات مع مصر وعن الأمل في ألا تحدث مضاعفات من شأنها الاساءة اليها وخرج مساعد دالاس من مكتب عبدالناصر منكسرا.
لم يكشف الرئيس السيسى على الملأ سوى هذه الواقعة والتى جاءت واضحة جلية تماما لمدى غضب واشنطن تحمل الكثير من الوعود التى تختزنها ضد من اعترضت عليه فى البداية وحذرت من ترشحه للرئاسة فلم يبالى متسلحا بظهير شعبى لم يكن من نصيب أحد من قبله خلال عام من تقلده فهل يتخلى عن هذا الظهير أم يتسلح بهم ويستند بقوتهم ..؟!
ترى ماهى نقاط القوة كما سجلتها التقارير المخابرتية الأمريكية الخاصة بالرئيس السيسى لن ننتظر حتى يسمح بإعلانها حسب الأعراف الأمريكية المتبعة فأفعاله وردود أفعاله وحدها هى الكاشفة.
فهل يفضل الرئيس السيسى سياسة الدبلوماسية الناعمة واضعا أهمية تحقيق الهدف أولى من الرد على التهديد ولو كان مبطنا أو حتى مباشرا ولهذا لم يمض أكثر من ثلاثة أيام فقط ليصل إلى الأراضى المصرية أقوى سلاح روسى يخرج من ترساناتها إلى مصر صواؤيخ s300 منذ أن انصاع السادات للمطالب الأمريكية .
[email protected]
رئيس تحرير جريدة العربى