البعث ما بين القطرية والقومية والأممية
د. علي دياب
د. علي دياب
شهدت منطقتنا العربية في النصف الأول من القرن المنصرم نشوء الحركات السياسية وتكوّنها، فكانت ذات مشارب مختلفة وتبنّت أيديولوجيات متباينة، فمنها ما كان أحزاباً قطرية، لم تتجاوز منطلقاتها وبرامجها القطر، بل كان بعضها أقرب إلى المناطقية من القطرية، مثل حزب الشعب والحزب الوطني في الجمهورية العربية السورية، ومنها ما كان أممياً في توجّهاته مثل تنظيم حركة الإخوان المسلمين، الذي دعا إلى وحدة الأمة الإسلامية، وبالمقابل عرف تنظيم آخر بتوجّهه الأممي ولكن على النقيض من حركة الإخوان المسلمين، ألا وهو الحزب الشيوعي السوري اللبناني، كما شهدت الساحة السياسية في منطقتنا أيضاً تنظيماً سياسياً قومياً، إلا أنه قومي بمفهومه الإقليمي، فكان في إطار حدود سورية الكبرى أو سورية الطبيعية، ألا وهو الحزب السوري القومي الاجتماعي.

البعث والتنظيم القومي

عرفت منطقتنا أيضاً نوعاً آخر من الأحزاب القومية العربية وكان في طليعتها: حزب البعث العربي الاشتراكي والحركة الناصرية بقيادة جمال عبد الناصر، الذي تزعّم حركة الضباط الأحرار، الذين قاموا بثورة 23 تموز في مصر عام 1952، فقد كان البعث سبّاقاً في طرح أهدافه: في الوحدة والحرية والاشتراكية، وجاءت التيارات الناصرية فيما بعد لتدخل تعديلات في ترتيب هذه الأهداف، فجاءت لديها: وحدة-اشتراكية-حرية أو اشتراكية-وحدة-حرية.

وقد تميّز البعث عن غيره من التنظيمات السياسية التي عرفتها منطقتنا العربية، سواء أكانت رجعية أم تقدمية، بفهمه للواقع العربي فهماً موضوعياً، استند فيه إلى واقعية علمية راعى فيها خصوصية الأمة العربية، والتباين القائم في طبيعة المجتمع العربي إن كان ضمن القطر العربي الواحد أو ما بين قطر عربي وآخر، ومن خلال هذا الفهم لم يتجاوز القطرية، وإنما عوّل عليها أهمية كبيرة في الوصول إلى المجتمع القومي، وبقدر ما يتم بناء هذا القطر بناءً سليماً ومعافى، بقدر ما يطمئن الحزب إلى بنائه القومي الصحيح، وبالتالي لم يغب عن البعث نظرته إلى المجتمع القومي المنشود الذي يقوم على أسس علمية وثورية، يتجلّى فيها البعد الإنساني الذي ينتفي فيه أي شكل من أشكال العنصرية والتعصب القومي التي عرفتها، أو مرّت فيها المجتمعات الأخرى من أوروبية وغيرها، إذ هدف البعث ومن خلال هذا الفهم الوصول إلى أمة عربية واحدة، لها مكانتها على وجه هذه البسيطة بين بقية الأمم التي تشكّل المجتمع البشري، وكل أمة تسهم بما لديها في الحضارة الإنسانية وتطوّرها، ومن هنا كان فهم البعث للأممية الحقة، التي لا تتعارض مع خصوصية الأمم والشعوب، وبالتالي تكون راعت العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ، حيث يوظّف المفهوم القطري والقومي في خدمة المفهوم الأممي الإنساني، وليس الأممي الشمولي إن كان مثالياً أم مادياً، أو بالأحرى إن كانت أممية تقوم على أساس ديني أو على أساس مادي شيوعي.

  

تباين ظروف الدول الإسلامية:

إن الأممية الإسلامية التي دعت إليها حركة الإخوان المسلمين أحدثت خلطاً بين أممية دعوتها وهوية تلك الدول التي تدين بالإسلام، صحيح أن المسلمين يشكلون أمة إسلامية واحدة، ولكن ذلك من الناحية الدينية وليس من الناحية السياسية، فالدين الإسلامي للناس كافة، ولكن الدول لسكانها وأهلها، فالدول الإسلامية متعددة الجنسيات، وظروفها مختلفة، والتحديات التي تواجه كلاً منها متباينة، فهل ظروف الدول الإسلامية وعلى سبيل المثال: الباكستان، إيران، تركيا، أفغانستان، أندونيسيا، الدول العربية الإسلامية متشابهة؟ بالتأكيد لا شك أنه توجد قواسم مشتركة بين معظم هذه الدول، وتتفاوت هذه القواسم بين دولة وأخرى، وربما جاءت منظّمة العالم الإسلامي لتعبّر وبخجل عن مثل هذه القواسم! ولكن لا أحد يستطيع أن يضع رأسه في الرمال مثل النعامة، ويتعامى عن أو يتجاوز تلك التباينات القائمة بين مختلف هذه الدول، وبالتالي لا يمكن قيام دولة إسلامية واحدة بمعناها السياسي والحقوقي، متجاوزة القوميات التي تنتمي إليها هذه الدول.

القومية وجوهر الدين:

إذا أخذنا قوميتنا العربية على سبيل المثال وموقف الإسلام منها، فإننا نجد أن تجاوز القومية العربية يتنافى وجوهر الدين الإسلامي، فنبي الإسلام «ص» كان عربياً، بل عربياً قرشياً، والقرآن الكريم جاء باللغة العربية، وبالتالي فإننا لا نخالف من يقول في علاقة العروبة بالإسلام، وتشبيهها بعلاقة وجهي العملة الواحدة، فكل منهما أغنى مضمون الآخر وأكمله، فالإسلام لم يبخس الوطن الأم أي القطر أو المدينة، هذا الوطن إن كان صغيراً أم كبيراً، لم يبخسه حقه في تكوين الأمة، وهذا يذكّرنا بقول الرسول العربي محمد بن عبد الله «ص» عندما خاطب مكة موطنه الأصلي: "إنك أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"، وذلك عندما أرغمه أهل مكة على الخروج منها، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الدين الإسلامي لم يكن ضد المدينة إن كانت صغيرة أو كبيرة، فهي الموطن الذي ينتمي إليه المرء، فاحترم هذا الانتماء وما يشكّله من ارتباط وهوية، وأعطاه حقه في تكون مجتمعه، ولم يدع إلى ذوبان هذه الخصوصيات كافة.

الإسلام وخصوصية الشعوب:

ربما جاء بعض المفسرين مستندين إلى الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير" في دعوتهم إلى الأممية الإسلامية، وتناسوا أن هذه الدعوة تؤكد خصوصية الشعوب والأمم في الإسلام وتحترمها، وأن ما رمت إليه الآية الكريمة هو العدل والمساواة بين الناس في الإسلام، إذ لا يتساوى المؤمن بغير المؤمن، ولا العالم بالجاهل، ولا المنتج بغير المنتج، وإنما عمل المرء وسلوكه هو الذي يقرّبه من ربه، ولن يؤثّر في ذلك لونه أو جنسه، وإذا انتقلنا إلى المقلب الآخر، أي الأممية الشيوعية، فإننا نجد أنها لم تكن أحسن حالاً من الأممية الإسلامية، على الرغم من أنها تستند هنا إلى نظريات علمية ومادية، وتأخذ على سابقتها في أنها دينية وغيبية وغير علمية، إلا أن القاسم المشترك بينهما هو أمميتها وضربهما عُرض الحائط المسألة الوطنية والقومية وعدم مراعاة خصوصية مجتمعاتهم العربية، وانطلاقاً من ذلك فإننا نجد أن كلا الاتجاهين لم ينجحا في تحقيق أية خطوة في تنفيذ برامجهم السياسية والفكرية والاقتصادية، وكان ثمة هوة بينهم وبين الواقع الذي يعيشون.

المسيرة النضالية للبعث:

صحيح أن البعث العربي الاشتراكي استطاع بفترة قياسية من عمره النضالي أن ينجح في الوصول إلى السلطة بداية عقد الستينيات من القرن الماضي في قطرين عربيين مهمين هما العراق وسورية، وذلك بسبب وعيه لطبيعة الشعب العربي في هذين القطرين وفي بقية الأقطار العربية، وأنه كان علمياً وواقعياً في تحليله لظروف أبناء هذه المجتمعات، مما مكّنه من أن يحقق هذا النجاح، إلا أن الظروف المحيطة به كانت صعبة، وواجه البعث عقبات وصعوبات جمة وعلى مختلف الصعد الداخلية والخارجية، وخاصة التنظيمية منها، مما حال دون نجاحه في تحقيق ما هدف إليه منذ بدايات نشوئه.. لكنه ماض في تحقيق مشروعه القومي النهضوي.

البعث ومشروعه القومي:

يمكننا القول وبصرف النظر عن موقفنا من النظام العراقي واختلافنا معه آنذاك: إن تخوّف القوى المتربصة بالبعث والخوف من مشروعه القومي وانسجامه مع طموحات أبناء الأمة العربية قاطبة في توحدها، ومواجهة تلك القوى دفعها لتكثيف ضغوطها واستنفار كل قوتها لتصل إلى ما وصلت إليه في مواجهة البعث في العراق، الذي استدعى التدخل الخارجي الأمريكي الغربي، ليضع العراق في غير المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، ويعمل على تقسيمه وتفتيته، وبغض النظر عما كان لدينا من ملاحظات حول النظام الذي حكم العراق باسم البعث، إلا أن المستهدف كان البعث وفكر البعث، والآن يعيدون اللعبة إياها مع بعثنا القومي في هذا القطر العربي السوري الذي يشكل قلب الأمة النابض، إلا أن ثقتنا بالبعث وبالجماهير المؤمنة به ستفوّت الفرصة على أعدائه وستمنيهم بالهزيمة مستقبلاً كما عرفوها في الماضي، وذلك بفضل إيمان أبناء هذا القطر بدورهم العربي وبوحدتهم الوطنية وتماسكهم في مواجهة هذه التحديات مهما كبر حجمها وعظم خطرها.


في السبت 30 أغسطس-آب 2014 10:20:07 ص

تجد هذا المقال في حزب البعث العربي الإشتراكي-قطراليمن
https://albaath-as-party.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://albaath-as-party.org/articles.php?id=10532