|
ولا فائدة من ذكر أسماء مثقفينا العرب، الذين تحولوا اليوم، وفي الأمس القريب، من رموز مشرقة لأمّتهم إلى أرقام باهتة في واجهة الإعلام والدعاية لحاكم عربي ما حدّ اتخاذ قرارات انتحارية من قبيل الدعوة إلى التطبيع مع العدو الصهيوني.
وتزداد مأساة هؤلاء فظاعة حينما ينتج الانهيار لأسباب أو مبررات تافهة عارضة، كبيع الاسم والمسمى معاً، لتحصيل منفعة عاجلة تتحدد بالمال أو المنصب وكثرة الظهور الإعلامي.
والنتيجة أن عقولاً وأقلاماً وأفواهاً كثيرة لمثقفين عرب أضحت عديمة الجدوى، فاقدة للمصداقية الفكرية والمعرفية والإبداعية، بعد أن أضحت صورهم تتصدر المجلات المترفة الأنيقة، ومقالاتهم التي يظهرون بها مرتجلة متناقضة في تصريحاتها، مرتبكة في مناهجها ونتائجها، ليستحيل هؤلاء إلى أشباه نجوم في زمن لا يعتقد في المثقف، بل يحوله إلى علامة كاريزماتية باهتة تشتغل على الأسماء عوضاً عن المسميات، وتستفيد من بهرج العرض كي يقال هذه المجلة النفطية، أو تلك، استقطبت الكاتب الفلاني ودجّنت هذا الفنان أو ذاك. وإذا هذا القبيل من المثقفين العرب، الذين آثروا الانتحار الرمزي على مواصلة مشاريعهم الفكرية والإبداعية الهامة، يسهمون في رداءة الزمن العولمي الذي نشهده اليوم.
وقد يبحث البعض لهؤلاء عن تعِلات كالقول بظروف الحياة الصعبة، واليأس من تغيير الوقائع، وتأخر المجتمع العربي، وغياب الآذان الصاغية، واصطدام المشاريع بالعجز، واستحالة الاستمرار فيها.. إلا أن الثابت للعيان أن هؤلاء المثقفين، الذين أقدموا على انتحارهم الرمزي، ليسوا من العاطلين عن العمل المحتاجين للمال والجاه، بل هم أساتذة جامعيون كبار، وقد شغل البعض منهم وزارات ومؤسسات ثقافية ذات سيادة ومراكز بحث لا تسلّم عادة إلا لمن أثبت الكفاءة والمعرفة، ونراهم في الأخير يقبلون أن يتحولوا إلى سلعة للتسويق الدعائي والإعلامي لهذا البلد النفطي أو ذاك، أو لجهة غربية، استعمارية القصد والاشتغال، حسب الطلب، كي يفقدوا بذلك احترام أنفسهم قبل احترام الآخرين لهم.
مشكلتنا اليوم أن خسارة هؤلاء لأنفسهم وخسارتنا بهم هي جدُّ فادحة، بعد أن تخلوا عن مشاريعهم الهامة، وانصرفوا إلى أداء اللحظة المشهدية، فاحترقوا بأضوائها، وتعرضت قواهم الفكرية والإبداعية إلى الاستنزاف حدّ الاستفراغ بدلالة الرمز، وكأنهم بذلك حولوا يأسهم الخاص إلى يأس عام.. ولم يقتصروا على خسارة أنفسهم، إذ نراهم أحياناً كثيرة يلجؤون إلى تهميش رفاقهم بسادية اللحظات الحرجة في العمل الانتحاري بالتقزيم والتبخيس والتخطيء والاستهانة، واستغلال مراكز نفوذهم السالفة والحادثة، لتسليط العقاب غير المبرر عليهم، والتشهير بهم، ولعب دور الجلاد، إن اقتضى الحال، لإخفاء وجه الضحية التي بها يتصفون في واقع انهيارهم التراجيدي اليوم.
فلا عجب اليوم في أن تنتشر سلوكات هؤلاء وتعمّ الساحة الثقافية العربية، كتحويل العمل الثقافي إلى ما يشبه مقاولات، يتبادل هؤلاء من خلالها في مختلف البلدان العربية المنافع النقدية والعينية والزيارات السياحية، لتشهد الحياة الثقافية العربية بذلك، منذ أعوام قليلة إلى اليوم، أفظع حالات التراجع والانهيار القيمي، كأن يستحيل البعض الكثير من مؤتمراتنا وندواتنا إلى ملتقيات فاقدة للقيمة العلمية والثقافية، تخدم القصد الدعائي الإعلامي فحسب.
فمتى تتوقف سلسلة الانتحارات المذكورة؟ ومتى نعيد للمثقف والثقافة العربيين الدور الطليعي الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم وغداً؟ كيف نحرر ثقافتنا العربية من هذه الأمراض وغيرها كي نتحرر بها جميعاً ونفتح الأفق واسعاً على مستقبل مشرق لأجيالنا القادمة؟.
في الأحد 05 ديسمبر-كانون الأول 2010 06:51:08 م