توفيق أحمدعندما يصدّر ناقد مثل «روزنتال» الفصل الأول في كتابه عن الشعر والحياة العامة بعبارة: إن الحياة حين تفتقر إلى الشعر تصبح أقل جدارة بأن تُعاش، فإنه يتحدّث عن الشعر باعتباره نشاطاً إنسانياً طبيعياً مفعماً بذكريات المشاعر والأحاسيس على الجسد، وخصوصاً وقع هذه الأحاسيس بالصوت الإنساني.
ولما كان الشعر في إحدى مغامراته مقاربة لأسرار الكون والحياة والوجود والروح والجسد، فنحن محكومون بالشعر كما يقول جوزيف حرب، أكان هناك أمل أم لم يكن، محكومون بالحلم والغناء وبناء العالم واكتشاف الكون، فالشعر ليس بأقل من مخلّص ترابي ذي جناحين جاء يدعو العالم إلى بناء فردوسه الأرضي.. وهذا التجاوب بين الذات والعالم هو الذي يجعل الحياة بصخبها والموت بهدوئه والزمن بضجره والطفولة بألقها والحب بانتظاراته وانكساراته مفاتيح أولية للدخول إلى عوالم الشعر.
والطفولة بوصفها مرحلة من عمر الكائن هي مستقبل كامن من جهة، ولكنها موات من خلال انفصالها عن الرحم من جهة ثانية، ولا نبالغ إذا قلنا إنها حيّز يتكافأ مع الحياة، ويكاد التوق الإنساني إلى المعرفة أن يشكل المسافة اللامرئية بين صرخة الولادة ولفظ النفس الأخير المودّع للحياة، ألم يلتقط المعري هذا الشبه بين صوت النعي وصوت البشير في كل ناد.
وعلى الرغم من أن الشاعر يدرك الأسود والأبيض في هذه المعادلة، إلا أن مسيرة البحث عن جواب جمالي لها لا ينقطع منذ رحلة الكشف عن الخلود التي بدأها جلجامش وعودته الخائبة، ولن ينقطع مادام نهر الوجود يحمل على ضفتيه ديمومة الموت في الزمان والمكان وديمومة الحياة أيضاً، مع الإشارة هنا إلى أن مسافات الشاعر لا مكانية وأوقاته لا زمانية، فقد يعتلي صهوة نجمة أو يختبئ في أريج زهرة أو يتنكر بزي عصفور، وقد يحسب الأيام بالنبضات، وقد يعتمد القبلة وحدة قياس لجسد الحبيبة.
أما الطفولة بوصفها فضاء الدهشة وبكارة المعرفة والتجربة فلا تنفصم عن الشعر والذي هو في الصميم لعب وحلم وخيال واكتشاف، ألم يقل أرسطو في فن الشعربالمحاكاة كماهية للفن، ذلك أن في أعماق كل منا طفلاً يكتشف بالمحاكاة وفيها ويستطلع ويكتسب معارفه الأولية بحب ورغبة غريزية.
ولأن الشعراء أخوة، ورحلتهم في القصيدة هي رحلة البحث عن جزر عذراء لم تكتشف بعد، فإن عودة أبي القاسم الشابي إلى عالم الطبيعة/ عالم الطفولة هي عودة إلى الأصل، فعلى الرغم من أناشيده للثورة والعمل والتقدم، واستنهاض الوعي تجاه الجهل والتخلف، فقد كانت طفولة الغاب فضاء أثيراً له:
فزمان الغاب طفلٌ لاعبٌ عــــــــــــذبٌ جميـــــــلْ
وزمان الـــنــاس شيـــــــخٌ عابسُ الوجه ثقيلْ
ويبدو أن قدر الشاعر في الشعر أن يشعل أعواده ويغامر بغية الحصول على علبة كبريت كاملة، ما إن تستقر بين أصابعه حتى يحرقها عوداً.. عوداً آملاً في كل مرة بكنز جديد.
وبعد، فإن طفولة الشعر تنبئ بأن قرننا الجديد سيكون شعرياً بامتياز، إن لم يتداركه النقد:
سبحان هذا الشعر إبداعاً بلا فوضى وطيش عابر وتشرذم
أنا لا أريد على البلاغــــــــة قيّماً فالشعر لا يعنيه شكل القيــّم
إنّا نريـــــــــد قصيدة لم نكتشف بحــــــــراً لها ووليدة لم تفطـــم
الشعر خارطة الجمال وكيفما صحّت لك الأمداء فيه فــحوّم
جاوز إذا كان التجاوز مبدعاً هل غادر الشعراء من متردّم
في الأحد 06 ديسمبر-كانون الأول 2009 07:00:51 م